خطبة الجمعة القادمة 13 سبتمبر : وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ ، للدكتور محروس حفظي
خطبة الجمعة القادمة
خطبة الجمعة القادمة 13 سبتمبر 2024 م بعنوان : وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ ، للدكتور محروس حفظي ، بتاريخ 10 ربيع أول 1446هـ ، الموافق 13 سبتمبر 2024م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 13 سبتمبر 2024 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ .
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 13 سبتمبر 2024 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 13 سبتمبر 2024 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ ، بصيغة pdf أضغط هنا.
___________________________________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
عناصر خطبة الجمعة القادمة 13 سبتمبر 2024 م بعنوان : وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ ، للدكتور محروس حفظي :
(أ) حالُ العالمِ قبلَ ميلادِ النَّبِيِّ ﷺ.
(ب) قبسٌ مِن الجوانبِ الإنسانيةِ في حياةِ خيرِ البريةِ.
(ج) مشروعيةُ الاحتفالِ بالمولدِ النبويِّ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 13 سبتمبر 2024 م بعنوان : وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ ، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
« وُلِدَ الهُدَى فالكائناتُ ضياءُ»
بتاريخ 10 ربيع الأول 1446 هـ = الموافق 13 سبتمبر 2024 م
الحمدُ للهِ حمداً يُوافِي نعمَهُ، ويُكافِىءُ مزيدَهُ، لك الحمدُ كما ينبغِي لجلالِ وجهِكَ، ولعظيمِ سلطانِكَ، والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على سيدِنَا مُحمدٍ ﷺ، أمَّا بعدُ ،،،
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة 13 سبتمبر : وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ
(أ) حالُ العالمِ قبلَ ميلادِ النَّبِيِّ ﷺ:
لقد كان العالمُ قبلَ ميلادِ النَّبِيِّ ﷺ ينقسمُ إلى دولتينِ دولةِ الرومِ في الغربِ والفرسِ في الشرقِ، وكانت كلُّ واحدةٍ منهمَا تملكُ نصفَ العالمِ، وكان البشرُ – ومنهُم العربُ – يعيشونَ حالةً مِن الفوضَى والاضطرابِ واللامبالاةِ في كلِّ شؤونِ حياتِهِم الدينيةِ والاجتماعيةِ والاقتصاديةِ … الخ، فامتنَّ اللهُ تعالى على عبادِهِ ببعثتِهِ، وميلادِ أمتِهِ، قال تعالى: ﴿قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ﴾، وقال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، ويصورُ سيدُنَا جعفرُ بنُ أبِي طالبٍ حالَ الأمةِ قبلَ بعثتِهِ تصويراً حقيقياً حينمَا وقفَ خطيبًا أمامَ النجاشِي قائلاً: «أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ؛ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيف» (أحمد) .
شاءتْ الإرادةُ الإلهيةُ منذُ الأزلِ أنْ يصطفِي مِن خلقِهِ نبيَّنَا ﷺ، فهيأَ لهُ الأسبابَ، واختارَ لهُ الوعاءَ الذي جاءَ منهُ، والمكانَ الذي نشأَ فيهِ، فلم يصبْهُ شيءٌ مِمّا كان منتشراً في زمانِهِ مِن اللهوِ واللعبِ والعاداتِ والتقاليدِ التي أبطلَهَا الإسلامُ ببعثتِهِ، وهذا ما صرحَ بهِ في أكثر مِن حديثٍ، قَالَ ﷺ: «خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ، مِنْ لَدُنْ آدَمَ لَمْ يُصِبْنِي سِفَاحُ الْجَاهِلِيَّةِ» (الطبراني)، وعَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:«إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَأَبِي مُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي آمِنَةَ الَّتِي رَأَتْ وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ، وَأَنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ لَهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهَا قُصُورُ الشَّامِ» (أحمد)، وصدقَ القائلُ:
يا مصطفَى مِن قبلِ نشأةِ آدمٍ .. والكونُ لم يفتحُ له اغلاقُ
أيرومُ مخلوقٌ ثناءَكَ بعدمَا .. أثنَى على أخلاقِكَ الخلاقُ
لقد كان ميلادُهُ ﷺ رحمةً بالخلائِقِ كلّهِم، حيثُ عمَّ الوجودَ بالأمنِ والأمانِ، والسلمِ والسلامِ، فأمِنَ البشرُ مِن العذابِ والخسفِ، وما كان يصيبُ الأممُ السابقةُ جزاءَ تكذيبِهِم لرسولِهِم، قال تعالى: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، وقال: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾، وأبو لهبٍ عمُّ الرسولِ ﷺ “لمَّا أعتقَ ثويبةَ حينَ بشرتْهُ بمولدِهِ ﷺ يخففُ عنه العذابُ يومَ الإثنين” (البخاري)؛ لفرحِهِ بميلادِ سيّدِ الكونينِ مِن عربٍ وعجمٍ، وقد نظّمَ شمسُ الدينِ مُحمدٌ بنُ ناصرِ الدمشقِي فى هذا المعنَى شعراً، قالَ فيهِ:
إذا كان هذا كافرًا جاءَ ذمّهُ … وتبتْ يداهُ فى الجحيمِ مُخلدَا
أتَى أنّهُ فى يومِ الاثنينِ دائمًا … يخففُ عنهُ للسرورِ بأحمدَا
فمَا الظنُّ بالعبدِ الذي عاشَ عمرَهُ … بأحمدَ مسرورًا وماتَ مُوحدَا
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة 13 سبتمبر : وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ
(ب) قبسٌ مِن الجوانبِ الإنسانيةِ في حياةِ خيرِ البريةِ:
قَلِّبْ ما شئتَ مِن صفحاتِ التاريخِ قديماً وحديثاً لم ولن تجدَ أي إنسانٍ كرَّمَ الإنسانَ مثلمَا فعلَ سيّدُ الأولينَ والأخرينَ ﷺ، وحقٌّ أنْ يكونَ أعظمَ شخصيةٍ خلدَهَا التاريخُ البشريُّ على مرِّ العصورِ، وتوالِي الدهورِ كمَا قال الكاتبُ الأمريكيُّ «مايكل هارت» في كتابِهِ: «الخالدونَ مائةٌ أعظمُهُم مُحمدٌ»، حيثُ أعلنهَا صراحةً أنَّ الشخصَ الوحيدَ الذي نجحَ على المستوىَ المادِي والمعنوِي هو سيدُنَا مُحمدٌ ﷺ، ولذا بدأَ بهِ كتابَهُ، والحقُّ ما شهدَتْ بهِ الأعداءُ، فهيَّا هلمَّ نرتشفُ ونغترفُ مِن أنوارِ حياتِهِ ﷺ لنتخذَهَا قدوةً وأسوةً في حياتِنَا المعاصرةِ:
أولاً: احترامُ الإنسانِ لذاتِهِ: لقد كُرِّمَ الإنسانُ مِن حيثُ إنّهُ إنسانٌ بغضِّ النظرِ عن لونِهِ وجنسِه وعرقِه، وساوىَ بينَ الناسِ جميعًا في أصلِ الخِلقةِ، فلا فضلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أعجَمِيٍّ إلّا بالتقوىَ، والمتأملُ في سيرتِه ﷺ يجدُ أنَّ مظاهرَ تكريمِه للإنسانِ أكثرُ مِن أنْ تُحصَى حتى في حالِ الموتِ، فعن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ: «كانا قَاعِدَيْنِ بِالقَادِسِيَّةِ، فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ، فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالاَ: إِنَّ النَّبِيَّ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا»(متفق عليه)، وتعاملُهُ مع مخالفيهِ في العقيدةِ أثناءَ إقامتِه في المدينةِ أعظمُ شاهدٍ على ذلك، حيثُ أسسَ أعظمَ دولةٍ مدنيةٍ عرفهَا البشرُ يقولُ الشاعرُ الفرنسيُّ “لا مارتين”: «أعظمُ حدثٍ في حياتِي هو أنّنِي درستُ حياةَ رسولِ اللهِ مُحمدٍ دراسةً واعيةً، وأدركتُ ما فيهَا مِن عظمةٍ وخلودٍ، ومَن ذا الذي يجرؤُ على تشبيهِ رجلٍ مِن رجالِ التاريخِ بمُحمدٍ ؟! ومَن هو الرجلُ الذي ظهرَ أعظمَ منهُ عندَ النظرِ إلى جميعِ المقاييسِ التي تُقاسُ بهَا عظمةُ الإنسانِ» .
وكان يتعاهدُ جيرانَهُ حتى ولو كانُوا غيرَ مسلمينَ، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صﷺ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ ﷺ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ يَقُولُ: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ» (البخاري) .
ثانياً: تعاملُهُ مع أهلِ بيتِهِ: لقد تعاملَ مع أهلِ بيتِهِ بكلِّ رحمةٍ وسهولةٍ، فلم يُؤثرُ عنهُ ﷺ أنّهُ آذَى امرأةً أو شقَّ عليهنَّ، ويكفِي أنْ نتأمَّلَ بعضَ مواقفِهِ:«اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النبي ﷺ فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ – ابنته- عَالِيًا، فَلَمَّا دَخَلَ تَنَاوَلَهَا لِيَلْطِمَهَا، وَقَالَ أَلا أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَجَعَلَ النبيُّ ﷺ يَحْجِزُهُ وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا، فَقَالَ النبي ﷺ حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنْ الرجُلِ ؟، قَالَ: فَمَكَثَ أَبُو بَكْرٍ أَيامًا ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَوَجَدَهُمَا قَدْ اصْطَلَحَا فَقَالَ لَهُمَا: أَدْخِلانِي في سِلْمِكُمَا كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي في حَرْبِكُمَا فَقَالَ النبي: قَدْ فَعَلْنَا قَدْ فَعَلْنَا» (متفق عليه)، فها هي رحمتُهُ ﷺ قد فاقتْ رحمةَ الأبِّ، فأبُو عائشةَ- هو أبو بكرٍ الصديق- أرادَ أنْ يعاقبَهَا على خطئِهَا، ولكن لرحمتِهِ بهَا ﷺ حجزَ عنهَا أباهَا!.
كما كان يقومُ بخدمةِ ورعايةِ أهلِ بيتِهِ، سُئِلَتْ عَائِشَةُ: «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ» (ابن حبان)، وأحيانًا تخطئُ زوجتُهُ ﷺ خطأً كبيرًا، ويكونٌ هذا الخطأُ أمامَ الناسِ، وقد يسببُ ذلك الإحراجَ لهُ، ومع ذلك يُقدِّرُ موقفَهَا، ويرحمُ ضعفَهَا، ويعذرُ غيرتَهَا، ولا ينفعلُ إنّمَا يتساهلُ ويعفُو، عَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ- أَظُنُّهَا عَائِشَةَ- فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ لَهَا بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، قَالَ: فَضَرَبَتِ الْأُخْرَى بِيَدِ الْخَادِمِ، فَكُسِرَتِ الْقَصْعَةُ بِنِصْفَيْنِ، قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «غَارَتْ أُمُّكُمْ»، قَالَ: وَأَخَذَ الْكَسْرَيْنِ فَضَمَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، فَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ، ثُمَّ قَالَ: كُلُوا فَأَكَلُوا وَحَبَسَ الرَّسُولَ، وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ إِلَى الرَّسُولِ قَصْعَةً أُخْرَى، وَتَرَكَ الْمَكْسُورَةَ مَكَانَهَا» (البخاري)، لقد تعامل ﷺ في هذا الموقفِ ببساطةٍ، وقد عللَّ غضبَ زوجتِهِ بالغيرةِ، ولم ينسَ أنْ يرفعَ قدرَهَا، فأيُّ رحمةٍ هذه التي كانت في قلبِهِ ﷺ، ماذا لو حدثَ هذا في زمانِنَا اليومَ هذا الموقفُ ؟ ماذا كان يفعلُ الزوجُ؟ وما هو أقلُّ تصرفٍ كان سيحدثُ؟ في نظرِي أقلُّ تصرفٍ أنّهُ سيُطَلِّقُ هذه الزوجةَ بعدَ ضربٍ مبرحٍ .
إنَّ المتصفحَ في سيرةِ خيرِ البريةِ يجدُ تجاوزَهُ وتغافلَهُ لأهلِ بيتِهِ، فقد كان يخفضُ الجناحَ لهم، ويلينُ الكلامَ، ويتركُ الإغلاظَ لهُم في القولِ، وهذا مِن أقوى أسبابِ الألفةِ، فتصورُ لنَا أنّهُ كان رؤوفاً رحيماً، لطيفاً رقيقاً، لا جباراً غليظاً عنيداً، فعن أنسٍ قال: «كانت صفيةُ مع رسولِ اللهِ في سفرٍ، وكان ذلك يومهَا، فأبطأتْ في المسيرِ، فاستقبلَهَا رسولُ اللهِ وهي تبكِي وتقولُ: حملتنِي على بعيرٍ بطيءٍ، فجعلَ رسولُ اللهِ يمسحُ بيديهِ عينيهَا ويسكتُهَا» (السنن الكبرى)، كما تذكرُ تبسمَهُ ﷺ وممازحتَهُ وتلطفَهُ لأهلِ بيتهِ في غيرِ إهانةٍ أو ظلمٍ، وقد جبرَ ﷺ بخاطرِ ابنتِه زينبَ بفداءِ زوجِهَا أبي العاصِ بنِ الربيعِ إذ كان مِن أسرىَ بدرٍ، واشترطَ عليهِ أنْ يُرسِلَ ابنتَهُ زينبَ إليهِ في المدينةِ، فما أحوجنَا أنْ نروِي أنفسَنَا مِن هذا النبعِ الصافِي، والخُلقِ الوافِي خاصةً في زمنٍ يطولُ عجبُكَ مِن حالِ بعضِ الرجالِ، يجودُ خارجاً بالكلامِ الحَسَنِ، وطولِ التبسمِ مع أصحابِه ورفاقِه، حتى إذا أغلقَ منزلَهُ، وخلَا بأهلِهِ تغيَّرتْ شخصيتُهُ، فلا ترى إلّا العبوسَ والتهجمَ، والغلظةَ والقسوةَ، ولغةَ التأفُّفِ!! مع أنَّ أهلَ بيتِه، ومَنْ جعلَ اللهُ بينَهُ وبينَهُم مودَّةً ورحمةً هُم أولَى الناسِ بالبشاشةِ، وأسعدُ الناسِ بهذا الخُلُقِ.
تابع / خطبة الجمعة القادمة 13 سبتمبر : وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ
لقد كان رسولُنَا ﷺ نموذجاً فريداً في حفظِ العشرةِ فهو لم ينسَ ما فعلتْهُ معهُ السيدةُ خديجةُ رضي اللهُ عنها فكان يكرمُ صُوَيْحِباتِهَا بعدَ موتِهَا، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ بِطَعَامٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنَ الطَّعَامِ وَيَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهَا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَا تَغْمُرْ يَدَيْكَ فَقَالَ ﷺ: إِنَّ هَذِهِ كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ أَوْ حَفِظَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ» (الطبراني)، وللهِ درُّ القائلِ:
احرصْ على حفظِ القلوبِ مِن الأذَى … فرجوعهَا بعدَ التنافرِ يصعبُ
إنَّ النفوسَ إذا تنافرَ ودّهَا … مثلَ الزجاجةِ كسرهَا لا يشعبُ
ثالثاً: إنسانيتُهُ ﷺ في مشاعرِهِ تجاهَ الآخرين: لقد كان ﷺ يشاركُ الناسَ مشاعرَهُم وهمومَهُم وآلامَهُم وآمالَهُم، فيفرحُ ويظهرُ الفرحَ عندَ المسرَّاتِ، ويظهرُ مشاعرَ الحزنِ والأسَى والبكاءِ عندَ الآلامِ، ولم يكنْ مِن هَدْيهِ ﷺ العبوسُ والتكشيرُ، وإنّمَا كان بسَّامًا، فها هو وجهُهُ الكريمُ ﷺ يستنيرُ مِن الفرحِ والسرورِ، عندمَا تابَ اللهُ على الثلاثةِ المخلَّفينَ عن غزوةِ تبوكٍ، قَالَ كَعْبٌ: «فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ قَالَ، وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ، قَالَ: قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ قَالَ: لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ ” قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ» (متفق عليه).
أمَّا عن مشاعرِهِ الرقيقةِ عندَ الحزنِ، فقد كانتْ تدمعُ عيناهُ، ويبكِي لفراقِ الأهلِ والأصحابِ بكاءَ رحمةٍ ورفقِ، لا بكاءَ ضجرٍ وتسخطٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَلَّبَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: «يَابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ»، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلا نَقُولُ إِلا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُنُونَ» (البخاري) .
رابعاً: إنسانيتُه ﷺ في تعاملِهِ مع صحابتِهِ: كان رسول الله ﷺ مثالاً يُقتدَى بهِ في التواضعِ مع أصحابِه، فهو على علوِّ مكانتِهِ، وعظيمِ قدرِهِ إلّا أنّهُ كان أبعدَ الناسِ عن الكِبرِ والبطرِ، وكان يخفضُ جناحَهُ للصحابةِ، ويجلسُ بينهم كواحدٍ منهم، ولا يتعاظمُ عليهم، ويجلسُ بينَ ظهرانيهِم حيثُ ينتهِي بهِ المجلسُ، حتى كان الرجلُ الغريبُ يسألُ عنهُ؛ لأنّهُ لا يميزهُ مِن بينِ أصحابِهِ، فعن أبي هريرة «كَانَ ﷺ يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَصْحَابِهِ، فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ …» (أبو داود) كما كان ﷺ يحترمُ أصحابَهُ، وأنَّ مِن الصحبةِ أنْ لا يستهزئ أحدٌ بصاحبِهِ، بل يحبّهُ ويقدرهُ، ويظهرُ ذلك أمامَ الجميعِ حباً لصاحبِهِ، فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مِمَّ تَضْحَكُونَ؟» قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ» (أحمد)، فهنَا نرىَ كيف أنكرَ ﷺ هذا الموقفَ مِن الصحابةِ، وبيّنَ لهُم أنّهُ ربَّمَا الذي يستهزئونَ بهِ عندَ اللهِ أفضلَ منهُم.
إنَّهُ لا ينفكُّ ﷺ أنْ يشعرَ بآلامِ أصحابِهِ، ويجعلَ لهُم مِن محنِهِم منحًا، ومِن الحزن فرحًا، ومِن الألمِ أملًا، فعن أبي سعيدٍ قَالَ:«أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مترفقًا بحاله: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ» (مسلم)، والمعنَى: أنّهُ ليسَ لكُم زجرُهُ وحبسُهُ؛ لأنَّهُ ظهرَ إفلاسُهُ، بل يُخلَّى ويُمهَلُ إلى أنْ يحصلَ لهُ مالٌ، فيأخذ الدائنونَ ديونَهُم بعدَ مَا يحصلُ لهُ مالٌ، وليسَ معناهُ إبطالُ ديونِهِم .
هذه بعضُ المواقفِ التي جسدتْ مشاعرَهُ ﷺ تجاهَ البشرِ بخلافِ ما عليهِ بعضُ الناسِ اليومَ عندمَا يسمعُ بمصيبةٍ ألمَّتْ بأخيهِ المسلمِ فضلاً عن أخيهِ مِن لحمِهِ ودمهِ، وما يظهرهُ مِن فرحٍ وسرورٍ وشماتةٍ، تتجسدُ على وجهِهِ، وتظهرُ على فلتاتِ لسانِهِ، وعلى العكسِ عندمَا يُرزقُ بنعمةٍ مَا عندئذٍ ترَى الوجوهَ قد عبستْ، والألسنةَ قد عُقدتْ، والمشاعرَ قد تبلدتْ، فلا حولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ.
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة 13 سبتمبر : وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ
(ج) مشروعيةُ الاحتفالِ بالمولدِ النبويِّ:
كثُرتْ وفاضتْ الأدلةُ في جوازِ الاحتفالِ بميلادِ سيّدِ الكائناتِ ﷺ، وأجازَهُ سادتُنَا أهلُ العلمِ قديماً وحديثاً كالحافظِ ابنِ دحيةَ، والحافظِ العراقِي، والسخاوِي، والمناوِي، وابنِ الجوزِي، والسيوطِي، وابنِ حجرٍ الهيتمِي، والشيخِ بخيتٍ المطيعِي، والشيخِ مُحمدٍ الطاهرِ بنِ عاشورٍ التونسيِّ المالكيِّ وغيرِهِم، بل ألّفُوا فيهِ مؤلفاتٍ لا تُحصَى، وقد وجدنَا أنَّ القرآنَ الكريمَ يأمرُنَا بالفرحِ وإظهارِهِ، فقال جل وعلا: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾، ورسولُنَا أعظمُ رحمةٍ للعالمين، وقد وردَ عن حبرِ الأُمةِ وترجمانِ القرآنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ قال: “فَضْلُ اللَّهِ: الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ: رسولُ اللهِ ﷺ”، فالفرحُ بهِ مطلوبٌ في كلِّ وقتٍ وفي كلِّ نعمةٍ، وعندَ كلِّ فضلٍ، ولكنّهُ يتأكدُ في كلِّ يومِ اثنينِ وفي كلِّ عامٍ في شهرِ ربيعٍ الأول؛ لقوةِ المناسبةِ وملاحظةِ الوقتِ.
لقد نصَّ ﷺ على أنَّ يومَ ميلادِهِ لهُ مزيةٌ على بقيةِ الأيامِ، فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ صَوْمِهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: صَوْمُ الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ – أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ-»(مسلم)، فالمؤمنُ يطمعُ في تعظيمِ أجرهِ بموافقتِهِ ليومٍ فيهِ بركةٌ، وتفضيلُ العملِ بمصادفتِهِ لأوقاتِ الامتنانِ الإلهِي معلومٌ قطعاً مِن الشريعةِ، ولذا فالاحتفالُ بذلك اليومِ، وشكرُ اللهِ على نعمتِهِ علينَا بميلادِهِ ﷺ ووجودِهِ بينَ أظهرِنَا مِمَّا تقرُّهُ الأصولُ، ولا تأباهُ العقولُ.
ولما قَدِمَ رَسُول اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْهَرَ اللهُ فِيهِ مُوسَى، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ:«نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ» (متفق عليه)، وكذا مِن أيامِ اللهِ – عز وجل- على أهلِ الأرضِ مولدُهُ ﷺ الذي رفعَ اللهُ بهِ عن البشريةِ الجهلَ والظلامَ والضلالةَ، فما أحوجنَا في هذا العصرِ إلى إحياءِ القيمِ النبويةِ في نفوسِ أبنائِنَا وبناتِنَا، لنحيَ حياةً كريمةً في دنيانَا، ونفوزَ بجنةٍ عرضُهَا كعرضِ السماءِ والأرضِ يومَ القيامةِ، وصدقَ القائلُ:
ومِــــمَّــــــا زادنِي فـــخرًا وتـيــهًـــــــا…. وكــــــدتُ بأخمـــــــصِي أطأُ الـثريَّا
دخولِي تحتَ قولِكَ يا عبادِي…. وأنْ صـيَّرتَ أحــمدَ لِي نـبيَّــا
نسألُ اللهَ أنْ يرزقنَا حسنَ العملِ، وفضلَ القبولِ، إنَّهُ أكرمُ مسؤولٍ، وأعظمُ مأمولٍ، وأنْ يجعلَ بلدَنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمنًا أمانًا، سلمًا سلامًا وسائرَ بلادِ العالمين، ووفقْ ولاةَ أُمورِنَا لِمَا فيهِ نفعُ البلادِ والعبادِ.
كتبه: الفقير إلى عفو ربه الحنان المنان
د / محروس رمضان حفظي عبد العال ،،،،
مدرس التفسير وعلوم القرآن – كلية أصول الدين والدعوة – أسيوط
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وللإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف